فصل: باب الإذْنِ بِالْجَنَازَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَرْضِ

- فيه‏:‏ ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ‏.‏

ورواه يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الأعْرَجِ، وذكر أنها كانت صلاة الظهر‏.‏

واختلف العلماء فيمن قام من اثنتين ساهيًا، هل يرجع إلى الجلوس‏؟‏ فقالت طائفة بحديث ابن بحينة‏:‏ إذا استتم قائمًا، واستقل من الأرض فلا يرجع، وليمض فى صلاته، وإن لم يستو قائمًا جلس، وروى ذلك عن علقمة، وقتادة، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم فى المدونة، والشافعى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إذا فارقت أليته الأرض، وإن لم يعتدل، فلا يرجع ويتمادى، ويسجد قبل السلام، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ يقعد وإن كان استتم قائمًا روى ذلك عن النعمان بن بشير، والنخعى، والحسن البصرى، إلا أن النخعى، قال‏:‏ يجلس ما لم يفتتح القراءة، وقال الحسن‏:‏ ما لم يركع‏.‏

وفى المدونة لابن القاسم، قال‏:‏ إن أخطأ فرجع بعد أن قام سجد بعد السلام، وقال أشهب وعلى بن زياد‏:‏ قبل السلام، لأنه قد وجب عليه السجود فى حين قيامه، ورجوعه إلى الجلوس زيادة، وعلة الذين قالوا‏:‏ يقعد، وإن استتم قائمًا القياس على إجماع الجميع أن المصلى لو نسى الركوع من صلاته وسجد، ثم ذكر وهو ساجد أن عليه أن يقوم حتى يركع، فكذلك حكمه إذا نسى قعودًا فى موضع قيام حتى قام أن عليه أن يعود له إذا ذكره‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب قول من قال‏:‏ إذا استوى قائمًا يمضى فى صلاته ولا يقعد، فإذا فرغ سجد سجدتى السهو، لحديث ابن بحينة أن نبى الله صلى الله عليه وسلم حين اعتدل قائمًا، من أن يذكر بنفسه، أو يذكره من خلفه بالتسبيح، وأى الحالين كان فلم ينصرف النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بعد قيامه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاوية، وسعيد، والمغيرة بن شعبة، وعقبة بن عامر، أنهم قاموا فى اثنتين، فلما ذكروا بعد القيام لم يجلسوا، وقالوا‏:‏ إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك‏.‏

وفى قول أكثر العلماء‏:‏ أنه من رجع إلى الجلوس بعد قيامه من اثنتين أنه لا تفسد صلاته إلا ما ذكر ابن أبى زيد، عن سحنون أنه قال‏:‏ أفسد الصلاة برجوعه، والصواب قول الجماعة، لأن الأصل ما فعله، وترك الرجوع رخصة وتنبيه أن الجلسة الأولى لم تكن فريضة، لأنها لو كانت فريضة لرجع النبى صلى الله عليه وسلم وقد سجد عنها، فلم يقضها، والفرائض لا ينوب عنها سجود ولا غيره، ولابد من قضائها فى العمد والسهو‏.‏

وقد شذت فرقة فأوجبت الأولى فرضًا، وقالوا‏:‏ هى مخصوصة من بين سائر فروض الصلاة بأن ينوب عنها سجود السهو كالعرايا من المزابنة، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعًا، لا يقاس عليها شىء من أعمال البر فى الصلاة‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ هى فرض، وأوجب الرجوع إليها ما لم يعمل المصلى بعدها ما يمنعه من الرجوع إليها، وذلك عقد الركعة التى قام إليها يرفع رأسه منها، وقولهم مردود بحديث ابن بحينة، فلا معنى للاشتغال به، وإنما ذكرته ليعرف فساده‏.‏

وأجمع العلماء أن من ترك الجلسة الأولى عامدًا أن صلاته فاسدة وعليه إعادتها، قالوا‏:‏ وهى سنة على حيالها، فحكم تركها عمدًا حكم الفرائض، وأجمعوا أن الجلسة الأخيرة فريضة إلا ابن علية، قال‏:‏ ليست بفرض قياسًا على الجلسة الوسطى، واحتج بحديث ابن بحينة فى القيام من ثنتين‏.‏

والجمهور حجة على من خالفهم لا يجوز عليهم جهل ما عليه الشاذ المنفرد، على أن ابن علية يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصلاة كلها سننها وفرائضها، وقوله مردود بقوله، ويرد أيضًا قولَهُ قولُهُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وتحليلها التسليم‏)‏، والتسليم لا يكون إلا بجلوس فسقط قولهم‏.‏

وفى حديث ابن بحينة حجة لمن جعل سجود السهود فى النقص قبل السلام، وقد اختلفوا فى ذلك، فذهبت فرقة إلى أن السجود كله قبل، روى هذا عن أبى هريرة ومكحول، وعن الزهرى، وربيعة، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وقالت فرقة‏:‏ السجود كله بعد السلام، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وعمار، وسعد، وابن عباس، وأنس، وهو قول النخعى، والحسن، والثورى، والكوفيين، واحتجوا من طريق النظر بإجماعهم على أن حكم من سها فى صلاته أن لا يسجد فى موضع سهوه، وإنما يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع له السجدتان كل سهو فى صلاته، ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضًا، فوجب أن يؤخر السجدتان عن السلام أيضًا كما يؤخر عن التشهد‏.‏

وذهب مالك إلى أن سهوه إن كان نقصانًا من الصلاة فسجوده قبل السلام على حديث ابن بحينة، وكل سهو كان زيادة فى الصلاة، فإن سجوده بعد السلام على حديث ذى اليدين، وهو قول أبى ثور، ولا مدخل للنظر مع وجود السنن، فلا معنى لقول الكوفيين‏.‏

باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا

- فيه‏:‏ ابن مسعود، أَنَّ الرَسُول صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَزِيدَ فِى الصَّلاةِ‏؟‏ فَقَالَ ‏(‏وَمَا ذَاكَ‏)‏، قَالَ‏:‏ صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، بَعْدَ مَا سَلَّمَ‏.‏

اختلف الفقهاء فى المصلى إذا قام إلى خامسة، فقالت طائفة بظاهر هذا الحديث‏:‏ إن ذكر وهو فى الخامسة قبل كمالها، رجع وجلس وتشهد وسلم، وإن لم يذكر إلا بعد فراغه من الخامسة، فإنه يسلم، ويسجد للسهو، وصلاته مجزئة عنه، هذا قول عطاء، والحسن، والنخعى، والزهرى، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا صلى الظهر خمسًا ساهيًا نُظر، فإن لم يقعد فى الرابعة قدر التشهد، فإن صلاته الفرض قد بطلت، ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون نافلة ويعيد الفرض، وإن جلس فى الرابعة مقدار التشهد فصلاته مجزئة ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون الخامسة والسادسة نفلا، وإن ذكر وهو فى الخامسة قبل أن يسجد فيها، ولم يكن جلس فى الرابعة رجع إليها فأتمها كما نقول، وسجد بعد السلام‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فلا ينفك أصحاب أبى حنيفة فى هذا الحديث من أحد وجهين‏:‏ إما أن يكون صلى الله عليه وسلم قعد فى الرابعة قدر التشهد، فإذا سجد ولم يزد على الخامسة سادسة، أو لم يقعد، فإنه لم يُعد الصلاة، وهم يقولون‏:‏ قد بطلت صلاته، ولو كانت باطلة لم يسجد صلى الله عليه وسلم للسهو، ولأعاد الصلاة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فسجد سجدتين بعد ما سلم‏)‏، هو حجة لمالك فى أن سجود السهو فى الزيادة بعد السلام، وخلاف لقول الشافعى فى أن سجود السهو فى الزيادة قبل السلام، وقول مالك يشهد له الحديث، ومن طريق النظر أن سجود النقص جبران، والجبران يقع داخل الصلاة، فيجعل زيادة فعل مكان ما سقط من الفعل، وتجعل الزيادة التى هى ترغيم للشيطان خارج الصلاة، ولا تدخل زيادة فعل على زيادة فعل، فتكثر الزيادات‏.‏

وقال المهلب‏:‏ السجود فى الزيادة إنما هو لأحد معنيين‏:‏ ليشفع ما قد زاد إن كان زيادة كثيرة، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين تشفع له ما تقدم‏)‏، وإن كانت زيادة قليلة فالسجدتان ترغيم للشيطان الذى أسهى وأشغل حتى زاد فى الصلاة، فأغيظ الشيطان بالسجدتين، لأن السجود هو الذى استحق إبليس بتركه العذاب فى الآخرة والخلود فى النار، فلا شىء أرغم له منه‏.‏

باب إِذَا سَلَّمَ فِى رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِى ثَلاثٍ يَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاةِ أَوْ أَطْوَلَ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ صَلَّى لنَا رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ‏:‏ أقصرت الصَّلاة يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏أَحَقٌّ مَا يَقُولُ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ‏.‏

قَالَ سَعْدٌ‏:‏ وصلى عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِىَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ‏:‏ هَكَذَا فَعَلَ الرسُول صلى الله عليه وسلم‏.‏

هذه الترجمة رد على أهل الظاهر فى قولهم‏:‏ أنه لا يسجد أحد من السهو إلا فى الخمسة المواضع التى سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو‏:‏ السلام من ثنتين على حديث ذى اليدين، والقيام من ثنتين على حديث ابن بحينة، إلا أنه يجعل السجود فى ذلك بعد السلام، أو من صلى الظهر خمسًا على حديث ابن مسعود، وفى البناء على اليقين على حديث أبى سعيد الخدرى، وفى التحرى على حديث ابن مسعود‏.‏

وجماعة الفقهاء يقولون‏:‏ إن من سلم فى ثلاث ركعات، أو قام فى ثلاث، أو نقص من صلاته مَالَهُ بَالٌ، أو زاد فيها، فعليه سجود السهو، لأن النبى صلى الله عليه وسلم علم الناس فى السلام من ثنتين، والقيام منها، وزيادة خامسة، وفى البناء على اليقين، والتحرى سجود السهو، ليستعملوا ذلك فى كل سهو يكون فى معناه‏.‏

واحتجوا فى ذلك أيضًا بحديث ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم فى الصلاة، فليتحر الصواب، وليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين‏)‏، فأمر بالسجود لكل سهو، وهو عام إلا أن يقوم دليل‏.‏

وفى قصة ذى اليدين من الفقه أن اليقين لا يجب تركه للشك، حتى يأتى بيقين يزيله، ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير تمامها، وأمكن فى ذلك القصد من جهة الوحى، وأمكن النسيان، لزمه أن يستفهم حتى يصير إلى يقين يقطع به الشك، وفيه من الفقه أن من سلم ساهيًا فى صلاته وتكلم، وهو يظن أنه قد أتمها، فإنه لا يضره ذلك ويبنى على صلاته‏.‏

وقد اختلف قول العلماء فى كيفية رجوع المصلى إلى إصلاح صلاته، فقال مالك فى المدونة‏:‏ كل من رجع إلى إصلاح ما بنى عليه من صلاته، فليرجع بإحرام‏.‏

وروى ابن وهب عنه أنه قال‏:‏ إن لم يكبر فلا يضره ذلك مع إمام كان أو وحده‏.‏

وقال ابن نافع‏:‏ إن لم يدخل بإحرام أفسد صلاته على نفسه، وعلى من خلفه إن كان إمامًا‏.‏

وقال الأصيلى‏:‏ رواية ابن وهب هى القياس، لأن رجوعه إلى صلاته بنية تجزئه من ابتداء بإحرام، كما فعل صلى الله عليه وسلم فى حديث ذى اليدين، وليس سلامه ساهيًا مما يخرجه من صلاته‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن لم يكبر فى رجوعه فلا شىء عليه، لأن التكبير شعار حركات المصلى، وأصل التكبير فى غير الإحرام إنما كان للإمام، ثم صار سُنَّة بمواظبة النبى صلى الله عليه وسلم عليه وتكبير الصلوات محصور فلا وجه للزيادة فيه، ألا ترى أن الذى يحبسه الإمام عن القيام لا يكبر إذا قام لقضاء ما عليه، لأنها زيادة على تكبير الصلاة، وسلامه ساهيًا لا يخرجه عن الصلاة عند جمهور العلماء، وإذا كان فى صلاة بنى عليها، فلا معنى للإحرام، لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها، وإنما يؤمر بالتكبير من ابتدأ الصلاة، أو استأنفها‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقول ذى اليدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله‏:‏ لم تقصر ولم أنس‏)‏، يدل أنه من تكلم ساهيًا فى الصلاة لم يفسدها، وهو قول مالك والشافعى‏.‏

والحجة لذلك أنه لما قال ذو اليدين‏:‏ بل قد نسيت، علمنا أنه لم يكن القصر فى الصلاة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ناسيًا، فحصل كلامه صلى الله عليه وسلم فى حال نسيان الصلاة غير مفسد لها، ولو كان الكلام يفسدها لابتدأ صلى الله عليه وسلم الصلاة ولم يَبْنِ‏.‏

هذا رد على أبى حنيفة وأصحابه والثورى، فإنهم زعموا أن من تكلم فى الصلاة ساهيًا، أو عامدًا لمصلحتها أنه قد أفسدها‏.‏

وروى مثل قولهم عن النخعى، وقتادة، وقاله ابن وهب، وابن كنانة من أصحاب مالك‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ إنما كان حديث ذى اليدين فى بدء الإسلام، ولا أرى لأحدٍ أن يفعله اليوم‏.‏

وقال ابن كنانة‏:‏ لا يجوز لأحدٍ اليوم ما جاز لمن كان مع النبى صلى الله عليه وسلم لأن ذا اليدين ظن أن التقصير نزل، وقد علم الناس كلهم اليوم أن تقصير الصلاة لا ينزل، فعلى من تكلم الإعادة‏.‏

قال عيسى ابن دينار‏:‏ فقرأته على ابن القاسم، فقال‏:‏ ما أدرى ما هذه الحجة، قد قال لهم النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل ذلك لم يكن، قالوا‏:‏ بلى قد كان بعض ذلك‏)‏‏.‏

فقد كلموه عمدًا بعد علمهم أنها لم تقصر وبَنَوْا‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ الكلام فى مصلحة الصلاة عمدًا لا يجوز‏.‏

وقال مالك‏:‏ الكلام فى مصلحتها عمدًا لا يفسدها، مثل أن يقول لإمامه‏:‏ بقيت عليك ركعة أو تسليمة، أو يسأله الإمام عن شىء تركه فيجيبه‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ إن تكلم لفرض يجب عليه لم تقسد صلاته، وإن كان لغير ذلك بطلت، والفرض عليه رَدُّ السلام، أو أن يرى أعمى يقع فى بئر، فينهاه‏.‏

واحتج الكوفيون، فقالوا‏:‏ حديث ذى اليدين منسوخ، نسخه حديث ابن مسعود، وزيد بن أرقم فى النهى عن الكلام فى الصلاة، وعللوا الحديث، فقالوا‏:‏ أبو هريرة لم يشهد قصة ذى اليدين، لأن ذا اليدين قتل يوم بدر، قالوا‏:‏ ويدل على ذلك ما رواه الليث بن سعد، عن نافع، وابن وهب، عن عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذى اليدين، فقال‏:‏ كان إسلام أبى هريرة بعد ما قتل ذو اليدين‏.‏

فعلى هذا معنى قول أبو هريرة‏:‏ ‏(‏صلى لنا رسول الله‏)‏، يعنى صلى بالمسلمين، وهذا جائز فى اللغة، كما قال النزال بن سبرة‏:‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا وإياكم كنا ندعى بنى عبد مناف، وأنتم اليوم بنو عبد الله، ونحن بنو عبد الله‏)‏، يعنى لقوم النزال، فهذا النزال يقول‏:‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يره، يريد بذلك قال لقومنا‏.‏

ومثله قال طاوس‏:‏ قدم علينا معاذ بن جبل، فلم يأخذ من الخضروات شيئًا، وطاوس لم يدرك معاذًا، إنما قدم اليمن فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يولد طاوس يومئذ، فمعنى قوله‏:‏ قدم علينا، قدم بلدنا، وهذا الزهرى على علمه بالسنن يقول‏:‏ إن قصة ذى اليدين كانت قبل بدر‏.‏

وما ادعاه الكوفيون أن حديث ذى اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود فغير مسلَّم لهم، لما قدمنا فى باب ما ينهى عنه من الكلام فى الصلاة أن حديث ابن مسعود فى تحريم الكلام فى الصلاة كان بمكة، وقت قدومه من الحبشة، وإسلام أبى هريرة كان عام خيبر، وقد صح شهود أبى هريرة لقصة ذى اليدين، وأنها لم تكن قبل بدر‏.‏

وقولهم‏:‏ إن ذا اليدين قتل يوم بدر، فغير صحيح، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين، ذكر ذلك سعيد بن المسيب، وجماعة من أهل السير‏:‏ ابن إسحاق وغيره، قالوا‏:‏ وذو الشمالين هو عمير بن عمرو، من خزاعة حليف لبنى زهرة، وذو اليدين غير ذى الشمالين المقتول ببدر، وإن المتكلم كان من بنى سليم، ذكر ذلك يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة‏.‏

وقال عمران بن حصين‏:‏ رجل طويل اليدين يقال له‏:‏ الخرباق، وقال الأثرم‏:‏ سمعت مسددًا يقول‏:‏ الذى قتل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو، حليف بنى زهرة، وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية، فيجئ فيصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم وذكر ابن أبى خيثمة أن ذا اليدين عَمَّر إلى زمن معاوية، وتوفى بذى خشب‏.‏

وقد اضطرب الزهرى فى رواية حديث ذى اليدين، فجعله ذا الشمالين المقتول ببدر، وترك العلماء حديثه، لأنه مرة يرويه عن أبى بكر بن سليمان بن أبى حَثْمَة، قال‏:‏ بلغنى أن النبى صلى الله عليه وسلم وحدث عنه مالك، عن سعيد وأبى سلمة، أنه بلغهما‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ثم سلم، ولم يسجد للسهو‏.‏

وقال مسلم بن الحجاج فى كتاب التمييز‏:‏ قول ابن شهاب أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يسجد يوم ذى اليدين خطأ وغلط، وقد ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والدليل على أن كل من تكلم فى صلاته عمدًا لمصلحتها أن صلاته تامة، أن ذا اليدين لما قال للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد كان بعض ذلك، علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصر، وأن النسيان الجائز قد حصل منه فابتدأ عامدًا فسأل الناس، فأجابوه أيضًا عامدين، لأنهم علموا أنها لم تقصر، وأن النسيان قد وقع، وبهذا احتج ابن القاسم‏.‏

وقال أبو الفرج‏:‏ لو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث ذى اليدين بتحريم الكلام فى الصلاة، لم يكن لهم فيه حجة، لأنه قد نهى عن التسبيح فى الصلاة فى غير موضعه، وأبيح للتنبيه على غفلة المصلى فى صلاته ليستدركه، فكذلك الكلام‏.‏

ويدخل على أبى حنيفة والشافعى التناقض فى قولهم فى هذا الحديث، لأنهم يجيزون المشى فى الصلاة عامدًا لإصلاحها، كالراعف يخرج من المسجد يغسل الدم وللوضوء، ولا يجوز ذلك، عندهم فى غير إصلاح الصلاة، فكذلك الكلام يجوز منه لإصلاح الصلاة ما لا يجوز منه لغير ذلك‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ

وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا‏.‏

وقال قَتَادَةُ‏:‏ لا يَتَشَهَّدُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ‏:‏ أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ‏)‏‏؟‏ فَقَالَ النَّاسُ‏:‏ نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ‏.‏

وقيل لابن سيرين‏:‏ فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ‏.‏

اختلف العلماء فى سجدتى السهو، وهل فيهما تشهد وسلام، فقالت طائفة‏:‏ لا تشهد فيها، ولا سلام‏.‏

روى ذلك عن أنس، وطاوس، والحسن، والشعبى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا تشهد فيهما، وفيهما سلام‏.‏

روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وعمار، وابن أبى ليلى، وابن سيرين‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ فيهما تشهد وسلام‏.‏

روى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، والحكم، ورواية عن قتادة، واستحسن ذلك الليث، وقاله مالك فى العتبية والمجموعة، وهو قول الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، والشافعى، ذكره ابن المنذر‏.‏

وحكى الطحاوى، عن الأوزاعى، والشافعى‏:‏ ليس فيهما تشهد‏.‏

وفيهما قول رابع‏:‏ إن سجد قبل السلام لم يتشهد، وإن سجد بعد السلام تشهد، رواه أشهب، عن مالك، وهو قول ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل‏.‏

قال المهلب‏:‏ وليس فى حديث ذى اليدين تشهد، ولا تسليم، ويحتمل ذلك وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم تشهد فيهما وسلم، ولم ينقل ذلك المحدث‏.‏

والثانى‏:‏ أنه لم يتشهد فيهما، ولا سلم، وألحق المسلمون بهاتين السجدتين الصلاة، لما كانت صلاةً كَبَّرَ الرسول لهما، فأضيف إليهما التشهد، والسلام تأكيدًا لهما‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ التسليم فى سجدتى السهو ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وفى ثبوت التشهد عنه صلى الله عليه وسلم فيهما نظر‏.‏

وفى حديث ذى اليدين حجة لمالك على الشافعى فى قوله‏:‏ إن سجود السهو كله فى الزيادة قبل السلام، لأنه صلى الله عليه وسلم زاد فى حديث ذى اليدين السلام، والكلام، ثم أكمل صلاته وسجد للسهو بعد السلام‏.‏

باب مَنْ يُكَبِّرُ فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ صَلَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلاتَىِ الْعَشِىِّ- قَالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ وَأَكْثَرُ ظَنِّى الْعَصْرَ- رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا‏:‏ أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ‏؟‏ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ‏)‏، قَالَ‏:‏ بَلَى، قَدْ نَسِيتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّ الرسُول صلى الله عليه وسلم قَامَ فِى صَلاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَكَبَّرَ فِى كُلِّ سَجْدَةٍ، وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِىَ مِنَ الْجُلُوسِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ التكبير فى سجود السهو ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم ولذلك ألحق المسلمون فيهما التشهد والسلام‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه أنه لو انحرف عن القبلة فى صلاته ساهيًا أو مشى قليلاً، أنه لا يخرجه ذلك عن صلاته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وخرج السرعان، وقالوا‏:‏ إنه قصرت الصلاة، فلم ينقض ذلك صلاتهم، لأنه كان سهوًا، فدل أن السهو لا ينقض الصلاة، ولا يستعمل اليوم مثل هذا من الخروج من المسجد والكلام ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ إعادة الصلاة، والعمل الكثير فى الصلاة مسقط لخشوعها، فلذلك استحب العلماء إعادتها من أولها إذا كثر العمل مثل هذا‏.‏

واختلف العلماء فى الذى يسهو مرارًا فى الصلاة، فقال أكثر أهل العلم‏:‏ يجزئه لجميع ذلك سجدتان، هذا قول النخعى، وربيعة، ومالك، والثورى، والليث، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، ومنهم من قال‏:‏ يسجد فى ذلك كله قبل السلام، ومنهم من قال‏:‏ بعد السلام، على حسب أقوالهم فى ذلك‏.‏

وفيه قول ثانى‏:‏ أن على من سها سهوين مختلفين أربع سجدات، هذا قول الأوزاعى‏.‏

وقال ابن أبى حازم، وعبد العزيز بن أبى سلمة‏:‏ إذا كان عليه سهوان فى صلاة واحدة، منه ما يسجد له قبل السلام، ومن ما يسجد له بعد السلام، فليسجد قبل السلام، وبعد السلام‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحديث ذى اليدين حجة لأهل المقالة الأولى، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم سلم وهذا يوجب سجود السهو، ثم مشى إلى خشبة معترضة فى المسجد فاتكأ عليها، وهذا يوجب سجود السهو، ثم تكلم، فقال‏:‏ ‏(‏أصدق ذو اليدين‏)‏، وهذا يوجب سجود سهو، ثم سجد لجميع ذلك صلى الله عليه وسلم سجدتين، وهذا حجة على من خالفه‏.‏

وقال مالك‏:‏ إنه إذا اجتمع سهوان فى الصلاة بزيادة ونقصان فسجودهما قبل السلام‏.‏

أخذ فى الزيادة بحديث ذى اليدين، وأخذ فى النقصان بحديث ابن بحينة، وبهذا يصح استعمال الخبرين جميعا، واستعمال الأخبار أولى من ادعاء النسخ فيها، والفرق بين الزيادة والنقصان بَيِّن من طريق النظر، لأن السجود فى النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الجبر بعد الخروج من الصلاة والسجود فى الزيادة ترغيم للشيطان، وذلك ينبغى أن يكون بعد الفراغ من الصلاة‏.‏

وسرعان الناس‏:‏ أوائلهم، وكذلك سرعان الخيل‏.‏

باب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا نُودِىَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ الأذَانَ، فَإِذَا قُضِىَ الأذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِىَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ‏:‏ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِى كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى، ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فأخذ قوم بظاهره، وقالوا‏:‏ من شك فى صلاته، فلم يدر زاد أم نقص، فليسجد سجدتين، وهو جالس ثم يسلم، وليس عليه ذلك روى ذلك، عن أنس، وأبى هريرة، وعن الحسن البصرى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هذا الحديث إنما هو فى المستنكح الذى يكثر عليه السهو ويلزمه حتى لا يدرى أسها أم لا، فمن كانت هذه حاله أبدًا أجزأه أن يسجد سجدتى السهو دون أن يأتى بركعة، وإنما يأتى بركعة الذى لا يعتريه ذلك كثيرًا، قالوا‏:‏ وبهذا التأويل تسلم الأحاديث من التعارض‏.‏

وعلى هذا فَسَّرَ الليث بن سعد حديث أبى هريرة، ذكره عنه ابن وهب، وذكره ابن المواز عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم‏.‏

ولمالك قول آخر فيمن كثر عليه السهو حتى يظن أنه لا يتم صلاته‏:‏ فَلْيَلْهُ عنه ولا شىء عليه‏.‏

قال عنه ابن نافع‏:‏ لا يسجد له، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ من كثر عليه السهو فلا يبنى على شكه، وَلْيَلْهُ عنه، ولو سجد بعد السلام كان أحبَّ إلىَّ، ومن لا يعتريه إلا غبا فَلْيَبْنِ على يقينه، ويسجد بعد السلام‏.‏

وقال آخرون‏:‏ حديث أبى هريرة ناقص يفسره حديث أبى سعيد الخدرى، وعبد الرحمن بن عوف، فى البناء على اليقين والإتيان بركعة للشاكِّ، وحديث أبى هريرة فيه مضمر قد ظهر فى حديث غيره فلا يجزئ من شك فى صلاته أن يخرج منها إلا حتى يستيقن تمامها، لأن الفرض لازم عليه بيقين فلا يسقط عنه إلا بيقين‏.‏

هذا قول ربيعة، ومالك، والثورى، والشافعى، وأبى ثور، وإسحاق‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الحكم فى الشك أن ينظر المصلى إلى أغلب ظنه فى ذلك، فإن مال إلى أحد العددين بنى على الأقل حتى يعلم يقينًا أنه قد صلى ما عليه، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه‏.‏

واحتجوا فى ذلك بحديث ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين‏)‏‏.‏

وقد ذكرت طرفًا من حجة من قال بالبناء على اليقين، ومن حجة من قال بالتحرى فى حديث ابن مسعود فى باب التوجه إلى القبلة حيث كان فى أول كتاب الصلاة، فأغنى عن إعادته‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إذا لم يدر كم صلى أعادها أبدًا حتى يحفظ‏.‏

روى هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وعن الشعبى، وشريح، وعطاء، وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعى، وحكى عن عطاء، وميمون بن مهران، وسعيد بن جبير قول آخر‏:‏ أنهم إذا شكوا فى الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يعيدوا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما هذان القولان الآخران فمخالفان للآثار كلها، لحديث ابن مسعود فى التحرى، ولحديث أبى سعيد، وعبد الرحمن بن عوف فى البناء على اليقين، ولحديث أبى هريرة فى هذا الباب، فلا أعلم له وجهًا إلا من جهة الاحتياط للصلاة، غير أن من كثر شكه ولم ينفك منه إن كُلف أبدًا ما ليس فى وسعه، ولا معنى لمن حَدّ فى ذلك ثلاث مرات أيضًا، وكذلك لا أعلم وجها لرواية ابن نافع عن مالك، أنه لا سجود على من كثر شكه، لأنها خلاف لحديث أبى هريرة‏.‏

وقد احتج ابن القصار لقول مالك فى الذى يكثر عليه السهو أنه ليس عليه غير السجود فقط، فقال‏:‏ الذى يكثر عليه السهو ويعتاده لا يتوصل إلى أداء صلاته فى غالب الحال إلا باجتهاد، ولو ألزمناه البناء على اليقين كلما شك أدى إلى أن لا يخرج من صلاته حتى يكثر العمل فيها، وكلما عاد إلى ما عنده أنه يقينُه عاوده الشك، فلحقته المشقة، وأدى إلى خروج الوقت، وفى هذا ما لا يخفى‏.‏

فحكمه حكم المستحاضة التى يخرج منها الدم، لو أمرناها بالخروج من الصلاة وغسل الدم، والوضوء وهو لا ينقطع أدى إلى أن لا تصلى حتى يخرج الوقت، ولعلها لا تصلى أصلاً، فكذلك من عادته الشك، وكثرة السهو، فينبغى أن يمضى على صلاته، ويشبه هذا قول أبو حنيفة فإنه يقول‏:‏ من شك فى صلاته فلم يدر كم صلى فإن وقع له ذلك كثيرًا بنى على اجتهاده وغالب ظنه، وإن كان ذلك أول ما عرض له فليستأنف صلاته‏.‏

فخالفنا فى الذى لا يقع منه السهو أبدًا، فنحن نقول‏:‏ يبنى، وهو يقول‏:‏ يبتدئ صلاته والحجة عليه فى هذا حديثُ ابن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏من شك فى صلاته فليتحر الصواب، وليتم عليه‏)‏، وأبو حنيفة يقول‏:‏ لا يتم ويستأنف‏.‏

وهو خلاف الحديث، وقد روى عن مكحول، والأوزاعى أنه من بنى على اليقين فليس عليه سجدتان، ومن لم يبن فليسجد‏.‏

ذكره الطبرى، وهو خلاف حديث ابن مسعود وغيره فى السجود لمن بنى على اليقين، وخلاف لقول الفقهاء‏.‏

باب السَّهْوِ فِى الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّى، جَاءَ الشَّيْطَانُ، فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدْرِىَ كَمْ صَلَّى‏؟‏ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ‏)‏‏.‏

الكلام فى هذا الحديث كالكلام فى حديث الباب الذى قبله، منهم من جعله مبينا على حديث البناء على اليقين، ومنهم من جعله فى المستنكح ومنهم من أخذ بظاهره فى المستنكح وغيره، ولم يوجب الإتيان بركعة على حسب ما تقدم فى الباب قبل هذا، وأما سجود السهو فى التطوع فإن جمهور الفقهاء يوجبون ذلك عليه، إلا ابن سيرين وقتادة، فإنهما قالا‏:‏ إذا سها فى التطوع فلا سجود عليه‏.‏

والحجة للجماعة عليهما، قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أحدكم إذا قام يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدرى كم صلى‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏قام يصلى‏)‏ تدخل فيه جميع الصلوات فرضها ونفلها، فهو عام فى كل ما يسمى صلاة، وقد أوجب صلى الله عليه وسلم السجود على الساهى، والسنة حجة على من خالفها فصح قول الجماعة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإذا كان الشيطان هو الذى يلبس عليه حتى ينسيه، فليرغم أنفه بالسجود فى السهو، فيرجع راغم الأنف خاسئًا بالسجود الذى حرمه الله فائدته، وخيبه من رحمته بإبائه منه‏.‏

باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّى فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ

- فيه‏:‏ كُرَيْبٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ، أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالُوا‏:‏ اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنَّا جَمِيعًا، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ، وَقُلْ لَهَا‏:‏ إِنَّا أُخْبِرْنَا عَنْكِ أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ نبى الله نَهَى عَنْهَا‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَليهَا‏.‏

قَالَ كُرَيْبٌ‏:‏ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِى، فَقَالَتْ‏:‏ سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا‏:‏ فَرَدُّونِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَىَّ وَعِنْدِى نِسْوَةٌ مِنْ بَنِى حَرَامٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ‏:‏ قُومِى بِجَنْبِهِ، فَقُولِى لَهُ‏:‏ تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الركعتين، ورأيتك تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِى عَنْهُ، فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِى نَاسٌ مِنْ عَبْدِالْقَيْسِ، فَشَغَلُونِى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الإشارة التى تفهم فى الصلاة، فقال مالك والشافعى‏:‏ لا تقطع الصلاة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ تقطع الصلاة، وحكمها حكم الكلام‏.‏

واحتجوا بما رواه ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن أبى غطفان بن طريف، عن أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار فى صلاته إشارة، تفهم عنه فليُعد‏)‏‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بحديث هذا الباب، وقالوا‏:‏ قد جاء من طرق متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإشارة مفهومة، فهو أولى من حديث أبى غطفان عن أبى هريرة، فليست الإشارة فى طريق النظر كالكلام، لأن الإشارة إنما هى حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد فى الصلاة لا تفسدها، فكذلك حركة اليد‏.‏

وفى حديث عائشة جواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى الصلاة، وقد روى موسى عن ابن القاسم، أن من أخبر فى الصلاة بما يسرُّه، فحمد الله، أو بمصيبة فاسترجع، أو يخبر بشىء فيقول‏:‏ الحمد لله على كل حال، أو الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، فلا يعجبنى وصلاته مجزئة‏.‏

وقد تقدم فى باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها فى كتاب أوقات الصلوات، الجمع بين معنى هذا الحديث، وبين نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر للطبرى، فاطلبه هناك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أنه ينبغى أن يسأل أعلم الناس بالمسألة، وأن العلماء إذا اختلفوا رفعوا الأمر إلى من هو أعلم منهم وأفقه للمسألة لملازمة سبقت له، ثم يُقتدى به، ويُنتهى إلى فعله، وفيه فضل عائشة وعلمها، لأنهم اختصوها بالسؤال قبل غيرها‏.‏

قال غيره‏:‏ وإنما رفعت المسألة إلى أم سلمة، والله أعلم، لأن عائشة كانت تصليهما بعد العصر، وعلمت أن عند أم سلمة من علمها مثل ما عندها، وأنها قد رأت الرسول صلى الله عليه وسلم يصليهما فى ذلك الوقت فى بيتها، فأرادت عائشة أن تستظهر بأم سلمة تقويةً لمذهبها من أجل ظهور نهيه صلى الله عليه وسلم عنهما، وخشية الإنكار لقولها منفردة، وقد حفظ عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏ما تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى سرًا ولا جهرًا، تريد جهرًا منها، وكان لا يصليهما فى المسجد مخافة أن يثقل على أمته‏)‏‏.‏

وأما الركعتان اللتان صلاهما النبى صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم فى بيت أم سلمة فهما غير اللتين كان يلتزم صلاتهما فى بيت عائشة بعد العصر، وإنما كانت الركعتان بعد الظهر على ما جاء فى الحديث، فأراد إعادتهما ذلك الوقت أخذًا بالأفضل، لا أن ذلك واجب عليه فى سنته، لأن السنن والنوافل إذا فاتت أوقاتها لم يلزم إعادتها، والله ولى التوفيق‏.‏

باب الإشَارَةِ فِي الصَّلاةِ

قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُصْلِّح بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَ النبِىُّ صلى الله عليه وسلم وأَبُو بَكْرٍ فِى الصلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرسول صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّىَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، على ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ، دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِىَ تُصَلِّى، فَقُلْتُ‏:‏ مَا شَأن النَّاسِ‏؟‏ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ‏:‏ آيَةٌ‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ بِرَأْسِهَا، أَىْ نَعَمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، صَلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وهذا الباب كله كالذى قبله، فيه الإشارة المعهودة باليد، والرأس، وفيه جواز استفهام المصلى، ورده الجواب باليد والرأس خلافًا لقول الكوفيين، وروى ابن القاسم عن مالك من تكلم فى الصلاة، فأشار برأسه، أو بيده، فلا بأس بما خف ولا يكثر‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ لا بأس أن يشير فى الصلاة ب ‏(‏لا‏)‏، و ‏(‏نعم‏)‏، وقد اختلف قول مالك إذا تنحنح فى الصلاة لرجل يسمعه، فقال فى المختصر‏:‏ إن ذلك لكلام‏.‏

وروى عنه ابن القاسم أنه لا شىء عليه‏.‏

قال الأبهرى‏:‏ لأن التنحنح ليس بكلام، وليس له حروف هجاء‏.‏

كِتَاب الْجَنَائِزِ

باب مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ

وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى، أَوْ قَالَ‏:‏ بَشَّرَنِى، أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ‏)‏، وَقُلْتُ‏:‏ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ النَّارَ‏)‏‏.‏

وَقُلْتُ أَنَا‏:‏ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ ليس ظاهر هذين الحديثين مما يوافق التبويب، قيل له‏:‏ قد ذكر البخارى حديث أبى ذر هذا فى كتاب اللباس، وقال فيه‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من عبد، قال‏:‏ لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة‏)‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏(‏وإن زنا وإن سرق‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وفسره بأن قال بأثره‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال‏:‏ لا إله إلا الله، غفر له، فدل قوله هذا على أن من قال‏:‏ لا إله إلا الله، وإن بَعُد قوله لها عن وقت موته، ثم مات على اعتقادها أنه ممن آخر كلامه لا إله إلا الله، وداخل فى معنى التبويب إذا لم يقل بعدها خلافها حتى مات‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد روى ابن أبى الدنيا، قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن عبيد، قال‏:‏ حدثنا أبو عاصم النبيل، قال‏:‏ حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبى عريب، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏، على ظاهر الترجمة‏.‏

وروى ابن أبى شيبة، حدثنا أبو خالد، عن يزيد بن كيسان، عن أبى حازم، عن أبى هريرة، قال‏:‏ ‏(‏لقنوا موتاكم لا إله إلا الله‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ لا خلاف بين أئمة المسلمين أنه من قال‏:‏ لا إله إلا الله، ومات عليها أنه لابد له من الجنة، ولكن بعد الفصل بين العباد ورد المظالم إلى أهلها‏.‏

وذكر ابن إسحاق، قال‏:‏ حدثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدث‏:‏ أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذ ابن جبل إلى اليمن وأوصاه أن ييسر ولا يعسر، ويبشر ولا ينفر، وقال‏:‏ ‏(‏إنه سيقدم عليك قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة‏؟‏ فقل‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له‏)‏‏.‏

قال غيره‏:‏ وفى حديث أبى ذر وقول ابن مسعود رد على الرافضة والإباضية، وأكثر الخوارج فى قولهم‏:‏ إن أصحاب الكبائر والمذنبين من المؤمنين يخلدون فى النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن أيضًا بتكذيبهم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقال أبو عثمان بن الحداد‏:‏ والحجة عليهم فى أن الله تعالى لا يُخَلِّدُ فى النار من عمل عملاً مقبولاً منه، إذ قبول العمل يوجب ثوابه، والتخليد فى العذاب يمنع ثواب الأعمال، وقد أخبر الله تعالى فى كتابه الصادق به‏:‏ ‏{‏إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏، وترك المثوبة على الإحسان ظلم، تعالى الله عن ذلك‏.‏

وقول وهب بن منبه‏:‏ إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك‏.‏

فإنما أراد بالأسنان القواعد التى بنى الإسلام عليها، التى هى كمال الإيمان ودعائمه، خلاف قول الغالية من المرجئة والجهمية الذين يقولون‏:‏ إن الفرائض ليست إيمانًا، وقد سماها الله إيمانًا بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ أى صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ واستئذانهم له عمل مفترض عليهم سموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقول ابن مسعود أصل فى القول بدليل الخطاب وإثبات القياس، والله الموفق للصواب‏.‏

باب الأمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

- فيه‏:‏ الْبَرَاءِ، قَالَ‏:‏ أَمَرَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ‏:‏ ‏(‏أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِى، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ‏.‏

وَنَهَانَا‏:‏ عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإسْتَبْرَقِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ‏:‏ رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اتباع الجنائز ودفنها والصلاة عليها من فروض الكفاية عند جمهور العلماء، واختلف أصحاب مالك فى ذلك، فذكر ابن المواز، قال عبد الملك‏:‏ الصلاة على الميت فريضة يحملها من قام بها‏.‏

وحكى ابن سحنون عن أبيه مثله، وقال أصبغ بن الفرج‏:‏ هى سُنَّة، وعيادة المرضى ندب وفضيلة‏.‏

وأما إجابة الداعى فإن كانت الدعوة إلى وليمة النكاح، فجمهور العلماء يوجبونها فرضًا، ويوجبون الأكل فيها على من لم يكن صائمًا إن كان الطعام طيبًا، ولم يكن فى الدعوة منكر، وغير ذلك من الدعوات يراه العلماء حسنًا من باب الألفة وحسن الصحبة‏.‏

وأما نصر المظلوم ففرض على من يقدر عليه ويطاع أمره، وإبرار القسم ندب وحض إذا أقسم الرجل على أخيه فى شىء لا مكروه فيه ولا يشق عليه، فعليه أن يبرَّ قسمه، وذلك من مكارم الأخلاق، ورد السلام فرض على الكفاية عند مالك والشافعى، وعند الكوفيين فرض معين على كل واحد من الجماعة‏.‏

وتشميت العاطس واجب وجوب سنة، والشرب فى آنية الفضة واستعمالها حرام على الرجال والنساء، وكذلك آنية الذهب، والتختم بالذهب حرام على الرجال خاصة، مباح للنساء، والحرير المصمت الذى لا يخالطه غيره لا يجوز لبسه للرجال، إلا أنهم اختلفوا فى لباسه للحرب، وحال التداوى للجرب وشبهه، وهو حلال للنساء‏.‏

وسقط من حديث البراء الخصلة السابعة المنهى عنها، وهى ركوب المياثر، وذكرها فى حديث البراء فى كتاب الاستئذان، وفى كتاب الأشربة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حقى المسلم على المسلم‏)‏ يعنى حق حرمته عليه، وجميل صحبته له ما لم يكن فرضًا فى الحديث كتشميت العاطس، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة، وهو كقول أبو هريرة‏:‏ حق على المسلم أن يغتسل كل جمعة، وأن يستاك ويمس من طيب أهله‏.‏

وليس شىء من ذلك عنده فرضًا، وسيأتى القول فى هذا الحديث مستوعبًا فى كتاب الاستئذان والسلام فهو موضعه، إن شاء الله تعالى، وفى كتاب النكاح فى إجابة دعوة الوليمة‏.‏

باب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا أُدْرِجَ فِى أَكْفَانِهِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ أن أَبَا بَكْرٍ دخل عَلَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ‏:‏ بِأَبِى أَنْتَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا‏.‏

فخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ‏:‏ اجْلِسْ، فَأَبَى، فَقَالَ‏:‏ اجْلِسْ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ‏:‏ أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ‏(‏إِلَى‏)‏ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا، حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا سمَعُ بَشَرٌ إِلا يَتْلُوهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمَّ الْعَلاءِ، بَايَعَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتِّ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ، وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِى أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ، لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ‏:‏ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ‏؟‏‏)‏ قُلْتُ‏:‏ بِأَبِى وأمى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّى لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى- وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ- مَا يُفْعَلُ بِى‏)‏، قَالَتْ‏:‏ فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِرَ، لَمَّا قُتِلَ أَبِى، جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، أَبْكِى، وَيَنْهَوْنِى عَنْهُ، وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لا يَنْهَانِى فَجَعَلَتْ عَمَّتِى فَاطِمَةُ تَبْكِى، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز كشف الثوب عن الميت إذا لم يبدُ منه أذى، وفيه جواز تقبيل الميت عند وداعه، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المكامعة، إنما هى فى حال الحياة، فلما ارتفعت فى الميت جاز تقبيله، وقد روى عبد الرزاق عن الثورى، عن عاصم بن عبيد الله، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون فأكب عليه فقبله، ثم بكى، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه‏.‏

وفيه جواز البكاء على الميت من غير نوح، وكذلك فى قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث جابر‏:‏ ‏(‏تبكين أو لا تبكين‏)‏ إباحة البكاء أيضًا، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله‏.‏

وأما قول أبى بكر الصديق‏:‏ لا يجمع الله عليك موتتين، فإنما قال ذلك، والله أعلم، لأن عمر بن الخطاب وغيره قالوا‏:‏ إن رسول الله لم يمت وسيبعث ويقطع أيدى رجال وأرجلهم، ذكرته عن عمر فى فضائل أبى بكر الصديق، فأراد أنه لا يجمع الله عليه ميتتين فى الدنيا، بأن يميته هذه الميتة التى قد ماتها ثم يحييه، ثم يميته ميتة أخرى‏.‏

وليس قوله‏:‏ لا يجمع الله عليك ميتتين، بمعارض لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏، لأن الميتة الأولى خلقه الله من تراب ومن نطفة، لأن التراب والنطفة موات، والموات كله لم يمت نفسه، وإنما أماته الله الذى خلقه، والموت الثانى الذى يموت الخلق، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وأحييتنا اثنتين‏}‏ يعنى حياة الدنيا والحياة فى الآخرة بعد الموت، هذا قول ابن مسعود والسائب بن يزيد وابن جريج، فقوله‏:‏ لا يجمع الله عليك ميتتين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وفى الآية قول آخر روى عن الضحاك أنه قال‏:‏ الميتة الأولى ميتته، والثانية موته فى القبر بعد الفتنة والمساءلة، واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب ميت، وإنما يقال‏:‏ ميت لمن تقدمت له الحياة، وهذا اعتراض فاسد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33‏]‏ ولم يتقدم لها حياة قط، وإنما جعلها الله جمادًا ومواتًا، وهذا من سعة كلام العرب، والقول الأول هو الذى عليه العلماء‏.‏

وفيه أن أبا بكر الصديق أعلم من عُمر، وهذه إحدى المسائل التى ظهر فيها ثاقب علم أبى بكر، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه وبارع فهمه، وسرعة انتزاعه بالقرآن، وثبات نفسه، وكذلك مكانته عند الأمة لا يساويه فيها أحد، ألا ترى أنه حين تشهد وبدأ بالكلام مال الناس إليه، وتركوا عمر‏.‏

ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته فى نفوسهم على عمر، وسمو محله عندهم، أخذوا ذلك رواية عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد أقر بذلك عمر بن الخطاب حين مات أبى بكر، فقال‏:‏ والله ما أحب أن ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبى بكر، ولوددت أنى شعرة فى صدر أبى بكر‏.‏

وذكر الطبرى عن ابن عباس، فقال‏:‏ والله إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وبيده الدرة، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيرى إذ قال لى‏:‏ يا ابن عباس، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التى قلت حين مات رسول الله‏؟‏ قلت‏:‏ لا أدرى والله يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ ما حملنى على ذلك إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ فوالله إنى كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها‏.‏

وفى تأويل عمر هذه الحجة لمالك فى قوله‏:‏ فى الصحابة مخطئ ومصيب، يعنى فى التأويل‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وفى حديث أم العلاء أنه لا يقطع على أحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، ولكن يرجى للمحسن، ويخاف على المسئ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى‏)‏، فيحتمل أن يكون قبل أن يعلمه الله بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد روى فى هذا الحديث ‏(‏ما يفعل به‏)‏ وهو الصواب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم من ذلك إلا ما يوحى به إليه، والله الموافق للصواب‏.‏

وقال عبد الواحد‏:‏ فإن قيل‏:‏ هذا المعنى يعارض قوله فى حديث جابر‏:‏ ‏(‏ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه‏)‏، قيل‏:‏ لا تعارض بينهما، وذلك أن الرسول لا ينطق عن الهوى، فأنكر على أم العلاء قطعها على ابن مظعون، إذ لم يعلم هو من أمره شيئًا، وفى قصة جابر قال بما علمه من طريق الوحى، إذ لا يجوز أن يقطع عليه السلام على مثل هذا إلا بوحى، فسقط التعارض‏.‏

باب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسِ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَىْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ لَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا صواب الترجمة‏:‏ باب الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه، وإنما نعى صلى الله عليه وسلم النجاشى للناس، وخصه بالصلاة عليه، وهو غائب، لأنه كان عند الناس على غير الإسلام، فأراد أن يعلم الناس كلهم بإسلامه، فيدعو له فى جملة المسلمين ليناله بركة دعوتهم، ويرفع عنه اللعن المتوجه إلى قومه‏.‏

والدليل على ذلك أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم على أحد من المسلمين ومتقدمى المهاجرين والأنصار الذين ماتوا فى أقطار البلدان، وعلى هذا جرى عمل المسلمين بعد النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يصل على أحدٍ مات غائبًا، لأن الصلاة على الجنائز من فروض الكفاية يقوم بها من صلى على الميت فى البلد التى يموت فيها، ولم يحضر النجاشى مسلمٌ يصلى على جنازته، فذلك خصوص للنجاشى، بدليل إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إن روح النجاشى أحضر بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم فصلى عليه، ورفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه، وخرج فأمهم فى الصلاة عليه قبل أن يُوارَى، وهذه أدلة الخصوص، يدل على ذلك أيضًا إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث، ولم أجد لأحد من العلماء إجازة الصلاة على الغائب إلا ما ذكره ابن أبى زيد، عن عبد العزيز بن أبى سلمة، فإنه قال‏:‏ إذا استوقن أنه غرق، أو قتل، أو أكلته السباع، ولم يوجد منه شىء صلى عليه كما فعل صلى الله عليه وسلم بالنجاشى، وبه قال ابن حبيب‏.‏

وفى نعى النبى للنجاشى، وقوله‏:‏ ‏(‏أخذ الراية زيدٌ فأصيب‏)‏ جواز نعى الميت للناس بخلاف قول من تأول نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن النعى أنه الإعلام بموت الميت، روى ذلك حذيفة‏:‏ ‏(‏أنه كان إذا مات له ميت، قال‏:‏ لا تؤذنوا به أحدًا، فإننى أخاف أن يكون نعيًا، فإنى سمعت رسول الله ينهى عن النعى‏)‏، وقال بذلك الربيع بن خثيم، وابن مسعود وعلقمة، وحديث النجاشى أصح من حديث حذيفة، وإنما الذى نهى عنه صلى الله عليه وسلم فهو نعى الجاهلية وأفعالها، وفيه علمٌ من أعلام النبوة بإخباره عن الغيب بخبر النجاشى، وخبر زيد وأصحابه، وسيأتى القول فى معنى حديث أنس فى كتاب الجهاد، إن شاء الله‏.‏

باب الإذْنِ بِالْجَنَازَةِ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَلا آذَنْتُمُونِى‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِى‏؟‏‏)‏ قَالُوا‏:‏ كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ‏.‏

الإذن بالجنازة والإعلام بها سُنَّة بخلاف قول من كره ذلك، روى عن ابن عمر أنه كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس، ثم خرج بجنازته‏.‏

والحجة فى السنة لا فيما خالفها، وقد روى عن ابن عمر فى ذلك ما يوافق السنة، وذلك أنه نعى له رافع بن خديج، قال‏:‏ كيف تريدون أن تصنعوا به‏؟‏ قالوا‏:‏ نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قرى حول المدينة ليشهدوا، قال‏:‏ نعم ما رأيتم‏.‏

وكان أبو هريرة يمر بالمجالس، فيقول‏:‏ إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا الذى صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما دفن إنما فعله لأنه كان يخدم المسجد، وقد روى أبو هريرة فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏أن أسود، رجل أو امرأة، كان يكون فى المسجد يقمّه فمات‏)‏، وروى مالك عن ابن شهاب، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف‏:‏ أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله بمرضها، وكان يعود المساكين، وقال‏:‏ ‏(‏إذا ماتت فأذنونى‏)‏، فخرج بجنازتها ليلاً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث، فإنما صلى على القبر، لأنه صلى الله عليه وسلم كان وعد ليصلى عليه ليكرمه بذلك، لإكرامه بيت الله تعالى ليحتمل المسلمون من تنزيه المساجد ما ينالون به هذه الفضيلة، وسيأتى اختلاف العلماء فى الصلاة على القبر بعد ما يدفن فى بابه، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ

وَقَوْل اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاثٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا، فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ‏)‏، قَالَتِ امْرَأَةٌ‏:‏ وَاثْنَانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَاثْنَانِ‏)‏‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ ‏(‏لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَتوفىَ لِمُسْلِمٍ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ، إِلا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ‏)‏‏)‏ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذه الأحاديث تدل على أن أولاد المسلمين فى الجنة، وهو قول جمهور العلماء، وشذت المجبرة فجعلوا الأطفال فى المشيئة، وهو قول مهجور مردود بالسُّنة وإجماع الجماعة الذين لا يجوز عليهم الغلط، لأن يستحيل أن يكون الله تعالى يغفر لآبائهم بفضل رحمته، ولا يوجب الرحمة للأبناء، وهذا بَيِّنٌ لا إشكال فيه‏.‏

وسيأتى الكلام فى الأطفال بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله تعالى، وقد جاء أنه من مات له ولد واحد دخل الجنة، روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قال الله عز وجل‏:‏ ما جزاء عبدى إذا قبضت صفيه من الدنيا فيصبر ويحتسب إلا الجنة‏)‏، ولا صفى أصفى من الولد‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واثنان‏)‏ بعد أن قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة‏)‏ يحتمل أنه لما قالت له المرأة‏:‏ أو اثنان‏؟‏ نزل عليه الوحى فى الحين أن يجبيها بقوله‏:‏ ‏(‏واثنان‏)‏ ولا يمتنع نزول الوحى على النبى صلى الله عليه وسلم فى أسرع من طرفة العين، ويدل على ذلك ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت عليه‏:‏ ‏(‏لا يستوى القاعدون من المؤمنين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ قام إليه ابن أم مكتوم، فقال‏:‏ يا رسول الله، إنى رجل ضرير البصر، فنزلت‏:‏ ‏(‏غير أولى الضرر‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏، فألحقت بها‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إلا تحلة القسم‏)‏ هو مخرج فى التفسير المسند، لأن القسم عند العلماء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ هذا قول أبى عبيد يقول‏:‏ فلا يَرِدُهَا إلا بقدر ما يبرُّ اللهُ قسمهُ‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وعارضنا ابن قتيبة، فقال‏:‏ هذا حسن من الاستخراج إن كان هذا قسمًا، قال‏:‏ وفيه وجه آخر، وهو أشبه بكلام العرب ومعانيهم، وهو إذا أرادوا تقليل مكث الشىء وتقصير مدته شبهوه بتحليل القسم، وذلك أن يقول للرجل بعده‏:‏ إن شاء الله فيقولون‏:‏ ما يقيم فلان عنه إلا تحلة القسم، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، مشهور فى كلامهم، قال‏:‏ ومعناه أن النار لا تمسه إلا قليلاً كتحليل اليمين، ثم ينجيه الله منها‏.‏

قال‏:‏ ولا إشكال أن المعنى ما ذهب إليه أبو عبيد، إلا أنه أغفل بيان موضع القسم، فتوهم ابن قتيبة أنه ليس بقسم‏.‏

وقد جاء ذلك فى حديث مرفوع رواه زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنى، عن أبيه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حرس ليلة وراء عورة المسلمين تطوعًا لم ير النار تمسه إلا تحلة القسم‏)‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ وفى هذا ما يقطع بصحة قول أبى عبيد‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وموضع القسم مردود إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 68‏]‏ الآية، وفيه وجه آخر وهو أن العرب تحلف وتضمر المقسم به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها ‏(‏المعنى‏:‏ وإن منكم والله إلا واردها، وقال الحسن وقتادة‏:‏ ‏(‏حتمًا مقضيا ‏(‏قسمًا واجبًا، وهو قول ابن مسعود‏.‏

واختلف العلماء فى هذا الورود المذكور فى الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن عباس‏:‏ لا يبقى بَر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الورود الممر على الصراط‏.‏

وروى ذلك عن ابن مسعود، وكعب الأحبار، ورواية عن ابن عباس‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو خطاب للكفار، روى ذلك عن ابن عباس، قال‏:‏ هو رد على الآيات التى قبلها فى الكفار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 68، 71‏]‏‏.‏

وقال ابن الأنبارى، وغيره‏:‏ جائز أن يرجع من مخاطبته الغائب إلى لفظ المواجهة، ومن المواجهة إلى الغائب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا إن هذا كان لكم جزاءً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21، 22‏]‏ فأبدل الكاف من الهاء، فعلى هذا صلح أن يكون خطابًا للمؤمنين، وقال مجاهد‏:‏ الحُمَّى حظ المؤمن من النار‏.‏

ثم قرأ‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها ‏(‏قال‏:‏ الحُمَّى فى الدنيا الورود، فلا يَرِدُها فى الآخرة‏.‏

والحجة له ما رواه أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عبد الله الأشعرى، عن أبى هريرة، قال‏:‏ عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه مريضًا كان يتوعك، فقال‏:‏ ‏(‏أبشر فإن الله تعالى يقول‏:‏ هى نارى أسلطها على عبدى المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة‏)‏‏.‏

وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث‏:‏ الذنب العظيم‏.‏

باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِى

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ مَرَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما أمرها بالصبر لعظيم ما وعد الله عليه من جزيل الأجر‏.‏

قال ابن عون‏:‏ كل عمل له ثواب إلا الصبر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏، فأراد صلى الله عليه وسلم ألا تجتمع عليها مصيبتان مصيبة الهلاك، ومصيبة فقد الأجر الذى يبطله الجزع، فأمرها بالصبر الذى لابد للجازع من الرجوع إليه بعد سقوط أجره، وقد أحسن الحسن البصرى فى البيان عن هذا المعنى، فقال‏:‏ الحمد لله الذى آجرنا على ما لابُدَّ لنا منه، وأثابنا على ما لو تكلفنا سواه صرنا إلى معصيته‏.‏

فلذلك قال صلى الله عليه وسلم لها‏:‏ ‏(‏اتقى الله واصبرى‏)‏، أى اتقى معصيته بلزوم الجزع الذى يحبط الأجر، واستشعرى الصبر على المصيبة بما وعد الله على ذلك، وقال بعض الحكماء لرجل عزاه‏:‏ إن كل مصيبة لم يُذهِبْ فرحُ ثوابها بألم حزنها لهى المصيبة الدائمة، والحزن الباقى‏.‏

وفى هذا الحديث دليل على جواز زيارة القبور، لأن ذلك لو كأن لا يجوز لما ترك صلى الله عليه وسلم بيان ذلك، ولأنكر على المرأة جلوسها عند القبر، وسيأتى بيان هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله‏.‏

باب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسَّدْرِ

وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيِّتًا‏.‏

وقال سَعدٌ‏:‏ لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ‏:‏ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تَعْنِى إِزَارَهُ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب يجعل الكافور فى آخره‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ السُّنة أن يغسل الميت بالماء والسدر غسلاً، ولا معنى لطرح ورقات من السدر فى الماء كفعل العامة، لأن الغسل إنما يقع بالسدر المضروب بالماء، وأنكر أحمد الورقات التى يطرحها العامة فى الماء‏.‏

جمهور العلماء على أن يغسل الميت الغسلة الأولى بالماء، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بماء فيه كافور، وروى قتادة عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل من أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بماء فيه كافور، ومنهم من يذهب إلى أن الغسلات كلها بالماء والسدر على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك بماء وسدر‏)‏، وهو قول أحمد، ورووا فى حديث‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم غسل ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر‏)‏‏.‏

وكان إبراهيم النخعى لا يرى الكافور فى الغسلة الثالثة، وإنما الكافور عنده فى الحنوط، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، ولا معنى لقولهم، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجعلن فى الآخرة كافورًا‏)‏ وعلى هذا أكثر السلف‏.‏

وقيل‏:‏ إن الكافور بسبب الملائكة‏.‏

وفى أمره صلى الله عليه وسلم باستعمال الكافور دليل على جواز استعمال المسك، وكل ما جانسه من الطيب فى الحنوط، وأجاز المسك أكثر العلماء، وأمر علىّ بن أبى طالب أن يجعل فى حنوطه، وقال‏:‏ هو من أفضل حنوط النبى صلى الله عليه وسلم واستعمله أنس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وكرهه عمر بن الخطاب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وقال عطاء، والحسن‏:‏ إنه ميتة‏.‏

وفى استعمال النبى صلى الله عليه وسلم له فى حنوطه الحجة على من كرهه‏.‏

واختلف الصحابة فى غُسل من غَسَّل ميتًا، فروى عن علىّ بن أبى طالب، وأبى هريرة أنَّ عليه الغسل‏.‏

وهو قول ابن المسيب، وابن سيرين، والزهرى، وهى رواية ابن القاسم، عن مالك فى ‏(‏العتبية‏)‏، قال‏:‏ وعليه أدركت الناس‏.‏

ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا غسل عليه‏.‏

روى ذلك عن ابن مسعود، وسعد، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين‏:‏ القاسم، وسالم، والنخعى، والحسن البصرى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والليث، وحكى ابن حبيب، عن مالك أنه لا غسل عليه، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتج ابن حبيب بحديث أسماء بنت عميس‏:‏ ‏(‏أنها غسلت أبا بكر الصديق بعد موته، فلما فرغت من غسله سألت من حضر من المهاجرين والأنصار هل عليها غسل‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏)‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ واختلف العلماء فى ابن آدم إذا مات، فقالت طائفة‏:‏ ينجس بالموت‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا ينجس‏.‏

وليس لمالك فيه نص، وقد رأيته لبعض أصحابه أنه طاهر، وهو الصواب، واختلف فيه قول الشافعى، والدليل على طهارته أن النبى صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون لما مات والدموع تسيل على خديه، ولو كان نجسًا لم يجز أن يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، وخاصة فإن الدموع إذا سالت عليه وهو نجس لم يجز أن تلاصقها بشرة الحى، لأنها تصير نجسة رطبة‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمن لا ينجس‏)‏، وهو بعد موته مؤمن كما كان فى حياته، فثبتت طهارته كما قال ابن عباس‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ فإن قيل‏:‏ فقد صح أن المؤمن لا ينجس، وأن المؤمن قد سقطت عنه العبادة بعد موته، فما وجه غسل الميت الذى ليس بنجس ولا متعبَّد، وما معنى غسله ثلاثًا‏؟‏ قيل‏:‏ يحتمل أن يكون معنى غسله، والله أعلم، أنه تنظيف لمباشرة الملائكة إياه، وللقائه لله تعالى، ولذلك يجعل له الكافور ليلقاه طيب الرائحة، وأمر أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، وليس التحديد فى ذلك بواجب، وإنما أريد بالغسل الإنقاء، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو أكثر من ذلك إن رأيتن‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن واحدة تكفيه، فما معنى الثلاث والخمس‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ للمبالغة فى غسله، ليلقى الله بأكمل الطهارات‏.‏

فإن قيل‏:‏ فماذا يطهر إذا لم يعلم به جنابة، ولا حيض بالمرأة، ولا بجسدها نجاسة‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه يجوز أن يكون به جنابة لا نعلمها من احتلام وغيره، ويغشاه الموت فيموت جنبًا، أو يمس جسده فى مرضه شىء من النجاسات، ولا يعلم ذلك، فوجب أن يؤخذ له بالوثيقة ويحتاط له، ليوقن له أنه لقى الله طاهرًا، والله أعلم‏.‏

وقد قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى‏:‏ إن كل ميت يجنب، ولو مات وهو طاهر من ذلك كله لكان تطهيره حسنًا، إذ قد يكون به رائحةُ عرقٍ ذفرٍ من المرض، أو مهنة، لبعده عن الغسل، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالغسل يوم الجمعة لمن ليس بجنب ولا عليه نجاسة إلا زيادة فى التطهير لمناجاة ربه يوم الجمعة، فالميت أحوج إلى ذلك للقاء الله تعالى، وللقاء الملائكة‏.‏

باب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا

- فيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته‏:‏ اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وَفِى حَدِيثِ حَفْصَةَ‏:‏ ‏(‏اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فى حديث أم عطية دليل على أن أقل ما يغسل الميت ثلاث، وعلى أن الغاسل إذا رأى غسله أكثر من ثلاث ألا يغسله إلا وترًا، ومعنى أمره بالوتر، والله أعلم، ليستشعر المؤمن فى أعماله أن الله تعالى وحده لا شريك له كما قال صلى الله عليه وسلم لسعدٍ حين رآه يشير بأصبعين فى دعائه‏:‏ ‏(‏أحِّد أحِّد‏)‏‏.‏

ولا يحفظ ذكر السبع فى حديث أم عطية إلا من رواية حفصة بنت سيرين عنها، ولم يروا ذلك محمد بن سيرين عن أم عطية إلا أنه روى هذه الألفاظ عن أخته، عن أم عطية، وروى سائر الحديث عن أم عطية‏.‏

وقال مالك، والشافعى‏:‏ يغسل الميت ثلاثًا أو خمسًا‏.‏

وقال عطاء‏:‏ أو سبعًا، وقال أحمد‏:‏ لا يزاد على سبع‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يقتصر عن ثلاث‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك أنه ليس لغسل الميت عندنا شىء موصوف، ولكنه يغسل ويطهر، وأحب إلىّ أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا زاد على الثلاثة سقط الوتر‏.‏

وهذا خلاف للحديث، وذهب الكوفيون، والثورى، ومالك، والمزنى أنه إذا خرج منه حدث بعد تمام غسله غسل ذلك الموضع، ولم يُعد غسله، لأنها عبادة على الحى قد أداها، وليس على الميت عبادة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن خرج منه شىء بعد الغسلة الثالثة أعيد غسله‏.‏

وقال أحمد‏:‏ يعاد غسله إذا خرج منه شىء إلى سبع غسلات، ولا يزاد عليها‏.‏

والقول الأول أَوْلى، لأنه لو خرج من الحى بعد الغسل حدث لم ينتقض غسله، ولا يكون حكم الميت أكثر من حكم الحى‏.‏

باب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ

- فيه‏:‏ أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ‏:‏ ‏(‏ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا‏)‏‏.‏

واستحب العلماء أن يُبدأ بميامن الميت، ومواضع الوضوء، لفضل الميامن وفضل أعضاء الوضوء، لأن الغرر والتحجيل يكون فيها، وقال ابن سيرين‏:‏ يبدأ بمواضع الوضوء ثم بميامنه‏.‏

وقال أبو قلابة‏:‏ يبدأ بالرأس واللحية، ثم الميامن‏.‏

واختلف الفقهاء فى وضوء الميت، وفى غسله، فقال مالك‏:‏ إن وضئ فحسن‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يوضأ، لأن العبادة ساقطة عنه والتكليف، ولأن المضمضة أن يمج ذلك من فيه، والاستنشاق لمن له نفس يجذبه، والميت لا يقدر على ذلك‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يوضأ قبل غسله‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لقول مالك أنه قد ثبت وجوب غسله كالجنب، فلما كان وضوء الجنب عند الغسل مستحبًا، كذلك هذا، ولما كان الحى يتوضأ فى غسله ليلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة، كان فى الميت الذى حصل فى أول منازل الآخرة أولى أن يلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة أيضًا‏.‏

وقول الكوفيين‏:‏ إن العبادة ساقطة عنه، وقد تعبدنا نحن بتطهيره، والمضمضة للتنظيف، ونحن نفعلها كما نغسل المواضع الغامضة منه، فإن ترك وضوؤه فلا بأس، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وأى وضوء أعم من الغسل‏)‏‏.‏